الأحد، 3 يناير 2021

عانق عثراتك فهي من ستأخذ بيدك للطريق المستقيم ... للكاتبة السورية منى العبود

عانق عثراتك فهي من ستأخذ بيدك للطريق المستقيم
منى شكري العبود ـ سوريا

صفعني القدر حين دب الإدراك فيني لأعلم أنني عاجز، فاقد كل من الذراعين والقدمين، أول شيء تعلمته نظرات الشفقة، والبحث عن سبيل للتخلص مني، مضغني اليأس بنهم، تغذى الاكتئاب على ما تبقى مني، لازلت أذكر شجارات والداي حول وجودي بينهم...
_لا أستطيع أن أراه في المنزل بعد الآن!
_كفاك سخفاً يا جورج أنه ولدك.
_في مساء هذا اليوم يجب أن أعد وأجدكِ وحيدة، وإلا فخيارك الآخر أن تكوني بصحبته حيث يكون!.
_أي قلب تملك يا جورج، أتريد رمي ولدك في مركز رعاية، أهذا ما تريده؟!.
_قد سئمت وجوده، أنا رجل ذو مكانة اجتماعية يحرجني وجوده في حياتي، حتى أنني لا أريد أي صلة تربطني به، أفهمتِ؟.
_تباً لك يا جورج.
لم تحرجه براءتي، ولم تكتسب شفقته عيناي الباكية بحرقة. هذا كان الشجار الأخير الذي أختتم بصفعة أدمت وجه أمي، كما أنه جردني من آخر حبال الحياة، نعم قد راودتني فكرة الانتحار، لكن عاجز مثلي كيف له أن يفعلها؟، قد حرمت حتى حق الاختيار!، عانقتني أمي بحرارة حينها، ربتت على كبريائي المحطم ببضع كلمات كانت بمثابة مخدر موضعي:
_ستغدو رجلاً ناجحاً يا مايكل، ستجعلني أفخر بكَ على الدوام، أليس كذلك يا بني؟.
عانقت الأمل، تسلحت به، تجردت من أثواب اليأس، هرولت نحو الحياة فاتحاً ذراعي لها، التحقت بالمدرسة، هذا طفل تندرعلي، وهناك طفل ينظر لي باشمئزاز، وهناك طفل يسألني على الدوام أين قدمي ويدي؟، وهنالك من يطالعني بازدراء، إلى أن غدوت منبوذاً، اهتاجت روحي بجروح متقرحة، تعرت ملامحي من أثواب الفرح، الحقتني أمي بمعهد لتعلم الموسيقى، فقد كانت تعلم أن سعادتي تكمن بين النوتات، كنت امتلك صوتاً يطرب كل من سمعه شريطة ألا يراني، ما أن يراني أغدو محط سخرية، بالطبع آلمني ذلك كثيراً، لكنني فيما بعد اعتدت على الأمر. ما أن أشرق ربيع حياتي سرعان ما عصف الخريف ليجتث بسمة شفتي، لم أكمل دراستي للموسيقى، بسبب ضائقة مالية اجتاحت أمي، سلبت الحياة من جديد ما أحب، حاولت الانتحار مرات عدة لكنني فشلت!
في سن التاسعة عشر دغدغني الموت بجائحة قلبية، ليطرحني أسفل درك الإحباط، ساخراً مني اليأس بإعاقة جديدة، غدى دعم أمي بارد الأثر، لم تعد كلماتها تلجم الألم بعيداً عني، بكيت في أحضانها ظلم كل شيء، حقنت فؤادها بشكواي فألمته:
_الحياة قد أعلنت حدادها يا أمي، يكفي ما عانيته حتى الآن. الموت قد تجذر، فجذوره امتدت على متن قلبي، اليأس مع كل نبضة أمل ينمو أكثر، قطع تلك الجذور يعني تمزيق القلب.
أجابتني تجلد دموعها بسياط الثبات:
_أنظر إلي يا مايكل، ألم تعدني أن تكون ناجحاً؟، ألم تعدني أنني سأفخر بكَ أمام والدك والعالم أجمع؟.
أجبتها بيأس:
_تلك الوعود لم تكن سوى حيلة للتعايش يا أمي.
مهدت طريق البسمة على وجنتي، تلقفت أثار الدموع لترجمهم بعيداً، ضمدت جراح روحي بكلماتها:
_والدك كان وفياً بأداء واجبه هذه المرة، خوفاً من فضيحة إهمال تضج بأنحاء الأرض فتفقده مركزه، لذلك قد أرسل لكَ ثمن حياتك، قد دفع لك تكاليف عملية القلب.
لا أنكر أنقذتني غريزة الأبوة الذي اعترت والدي فجأة من لعنة الموت. تمت العملية بنجاح. نحن كبشر لا ندرك قيمة الأشياء إلا حين فقدانها، رغم أنني هرولت نحو الموت عدة مرات حتى غدوت أحلم به، ألا أنني عندما وجدته شارعاً يديه لي، هرعت أبحث عن طريق العودة، كدت أفقد الحياة، لذلك عانقتها بصلابة الإصرار على النجاح، لا أملك نقود لإتمام دراستي، غدت أمي طريحة الفراش، عثرة  لن تفقدني إصراري، لذلك قمت بالبحث عن عمل، وبعد جهد مكثف أقنعت صاحب أحد المطاعم بالغناء مقابل ثمن بخس بالكاد يكفي دراستي وبعض دواء أمي، لكنه اشترط أنني سأغني خلف الستائر كي لا أفزع زبائنه، لم تعد انتقادات العالم وكلماته العبثية تهز كبريائي بعد أن حطموه ألاف المرات، عقدت صلحاً داخلياً معهم، فلم أعد أأبه لهم، أتممت دراستي الجامعية، كللت فرحتي بآس وضعته على قبر والدتي!، موتها ترك في جوفي بصمة سوداء، الحنين قد دفعني نحو تخوم الموت عدة مرات حباًّ بلقاء قريب، لكن أمي حتى في غيابها تمدني بالثبات، تركت لي أرثاً كان بمثابة نقطة تحول في حياتي، ورقة صغيرة كتب عليها ((ولدي الحبيب فخر أمه، فليشهد العالم أجمع.)) عانق قلبي أرثها، زف لساني وعوده لتعانق السماء فتصلها:
_ستفخرين بي أمام العالم، سأخبرهم عن امرأة عظيمة جعلت من بقايا عاجز بمثابة ألف رجل كامل، أعدكِ بذلك.
غدوت إنساناً مفعماً بالحيوية، نفضت عن عاتقي أكوام الفشل، بدأت محاضر بسيط في الجامعة، صفعت شفقتهم، لجمت ألسنتهم بحكمتي أمام سخريتهم، إلى أن عانقت معاملتهم لي الود والاحترام، كنت أخاطب طلابي وأصدقائي، أدفعهم نحو النجاح، أهديت كل منهم حياة وردية كان يحلم بها، إلى أن شيّع عني أنني شخص مؤثر، تطورت علاقاتي، كما تطورت نجاحاتي، زاد دخلي بشكل كنت أخشى الحلم به حتى، استضافتني قنوات عالمية. إعاقتي لم تمنعني من الوصول إلى أهدافي، ولن تمنعني من ممارسة ما أحب، لذلك قمت بلعب الجولف والتنس والسباحة والغناء، واكتسبت مهارات عالم الكمبيوتر، كنت من محبي القراءة بشغف، لذلك أخذت أتعلم المزيد من المهارات إلى أن أصبحت كاتباً معروفاً، بالإضافة إلى انني أهم المحاضرين في العالم. طرق الحب أبواب قلبي، لم تشكل إعاقتي عائقاً بالوصول إلى جو عائلي سعيد، مادام الإصرار على النجاح رفيقي، وأنا الآن بصحبة زوجتي وولدي في رحلة حول العالم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق