(( القوة الباقية حين يتخلى عنك الجميع))
_لقد تخلى الجميع عني يا أمي
_فلتهدأِ يا وجد ،فليرحل الجميع ،لكن فلتبقي لي
_لم يظهر لأدم أي أثر أليس كذلك؟ ،لم أتوقع منه أن يهجرني لمجرد أن أبتلاني الله بمرض مميت
_أنظري إلي يا وجد ،كفي عن البكاء وأسمعيني
نظرت إليها بينما عيناي توشي لها عن كمية الألم والقهر الرهيب الذي يجتاحني ،كانت تدرك أن سبب تدهور حالتي النفسية غياب أدم أكثر من المرض الذي أحتلني عنوة وتسبب بسقوطي قبل سقوط شعري بكامله ،أردفت أمي بصرامة:
_أن رحل أدم هناك من هو الأفضل؟؟ لكن أن رحلت أنا قهراً عليكِ يا وجد هل سيأتي الأفضل من بعدي؟ ،فكري جيداً يا ابنتي
همت أمي بالرحيل ،فعانق كفي كفها يرجوها ألا تذهب ،مرضي قد تسبب لها بإعاقة قلبية كادت تقضي عليها ،غدت حالتها النفسية والصحية في تدهور سريع ،مرضي كان كأداة حادة أستأصل عافيتها وضحكتها وسعادتها ،كيف أمر كهذا يجتثه من عقلي التفكير بأدم ،ويح أدم وويح الكون بأسره أن غابت أمي ،باغتها أرجوها قائلة:
_أن رحلتِ يا أمي رحل الكون بأسره ،كوني بخير لأجلي ،فأنا بحاجة للشخص الوحيد الذي التفت لي ،رحيلكِ يعني رحيلي ،فكري جيداً يا أمي
ربتت على يدي بيدها الأخرى عانقتني بقوة ،باغتها بمرح:
_أرغب بنزهة في الهواء الطلق ،ما رأيكِ؟؟
أومأت لي بابتسامة عريضة ،فمنذ أن علمتُ بمرضي لم أخرج من المنزل سوى لتلقي العلاج ،لم أرغب أن يرى أحدهم الشبح الذي بات يحتلني ،ولا أن يرى هشاشتي وضعفي ،لم أرغب أن يروني مكسورة مبتورة الجنحان ،كنت أخشى نظرات الشفقة أكثر من النظرات الشامتة ،ألبستني أمي حاجياتي ،وأجلستني على كرسي متحرك ،نعم فشراسة المرض لم تكتفي بتشويهي.. رمتني عاجزة أيضاً ،خرجت من قبري المؤقت لأول مرة لنزهة ،وليس نحو درب الألم والحقن والصراخ والبكاء ،تنفست بعمق ،كانت أمي تربت على كتفي بين الحين والآخر وهي تشير لي على جمال الطبيعة الساحر وكأنني لازلت طفلتها الصغيرة ،{أنظري هناك إلى ذاك العصفور ،وإلى تلك الفراشة الملونة... ،وهناك إلى ذاك الرجل الذي يبيع المثلجات ،أترغبين بالمثلجات التي تحبينها؟؟ أومئ لها فتهرول مسرعة لإسعادي}كانت أمي تدعيّ السرور لتجذبني نحوه ،نظرت حولي أتعمق بالطبيعة ،ثم سرعان ما هرولت عيناي نحو أولئك الذين يسيرون ويضحكون بسرور ،أغبطهم
باغتتني ذاكرتي التي هرولت نحو كوم تلك الذكريات المحطمة ،نحو أدم ،نحو كلماته الغزلية وحبه الأبدي ،وسرعان ما حلقت عيناي نحوه ،وكأن تلك الذكريات لفظته بعد أن غصت به آلاف المرات ،يمسك بيد فريسته الجديدة ما أن التفتت حتى علمت أنها صديقتي شغف ،يضحك ضحكة هوليود المصطنعة ليوقعها في شباكه لم يكن يعلم أنها من تصطاده ،يمطرها بحب هندي ،بينما يغرقها بغزل تركي ،لكنها لم تدرك أنه سيرميها برحيل غربي مفاجئ ما أن تباغته بحاجتها الماسة إليه ،المشهد الأخير ساذج جبان يليق ببطله ،تغرق مقلتي ببحور فاضت لعدة مرات حتى كادت أن تجف ،لكنني أبكي هذه المرة على عقلي الذي جعلتُ الفوضى تعثو به بذكريات عفنة أفسدت غيرها...
"_وجد أعذريني لا أستطيع النظر إلى وجهكِ بعد أن غدى...
_قبيحاً فلتنطقها لا تعبئ لأمر مشاعري التي أهملتها وأنا في أمس الحاجة إليك ،فقد اعتدت الأمر
_وجد يكفي أن تنظري في المرآة حتى تعذريني ،علي الرحيل ،سأسافر ،جئت لأودعكِ الوداع الأخير
_فلترافقك السلامة أنت وعهودك الكاذبة"
،باغتتني يدٌ تمسح فيض الدموع عن وجنتاي ،نظرت إليها بينما عيناها تتفرس ذاك الأحمق وحبيبته الخائنة لخبزنا وملحنا بشراسة ،ثم أردفت بحدة:
_الفئة التي هما منها هي كذلك لا تحفظ وداً ،الخيانة تسري في عروقهم الجافة
_لكن طعم الخيانة مر شائك يا أمي ،غص به قلبي ،حتى غدى ليس بقادر على ابتلاعها ولا على لفظها ،أرشديني يا أمي
_أنظري هناك ،ليس إلى المدى إنما للمستقبل ،أن كان مثل هذا زوجكِ ،يتسكع مع العشرات غيركِ ،كيف ستغدو حياتك؟ {نظرت إليها بعجز ،أبحث عن الإجابة الصحيحة في مقلتيها ،ثم تنبس بحدة:} غارقة في هموم الحياة ،تهرولين نحو مستقبل الأطفال وحيدة ،وعندما تقعين ستقعين وحيدة ،رجل كهذا لا يصلح أن يكون أساس المنزل وعاموده ،هذا يكفي لتلفظي خيانته كلقمة ممضوغة وتدهسيها تحت قدميكِ وتمضي
_وشغف يا أمي تلك التي أعددتها كأخت لي ،وتسلحت بها لأشد بها عضدي ،ها هي قد علمت من أين تأكل كتفي وهمت بتناوله
_قد أينعت وحان قطافها وانتهى الأمر ،هناك دائماً يوجد الأفضل أنظري حولكِ جيداً
وأخيراً تنبها لوجودي ،غرقا في نوبة ارتباك لا داعي لها ،رميتهما بنظرة احتقار ومضيت بصحبة أمي أأكل المثلجات ،لكن عيناي أبت الرحيل بعيداً عنهما ،عانق كفها بكفه ثم أطلق بصحبتها ضحكات شتى أوجعتني ومضيا ،باغتتني أمي تربت على يدي:
_ستمضي الأيام ونضحك أمام خيبتهم سوياً ،عديني يا وجد
_أعدكِ يا أمي
استعدت رباطة جأشي ،غدت حالتي النفسية أفضل بعد أن حددت هدفي في الحياة ألا وهو الشفاء أولاً ،ثم مستقبلي كطبيبة ناجحة ثانياً ،هرولت الأيام سريعاً ،وها قد أينع حلمي وحان قطافه
_دكتورة وجد هناك حالة إسعاف ،حادث سير أليم أنتج وفاة الأم ،والطفل في حالة حرجة للغاية ،يرجى حضورك بسرعة إلى غرفة العمليات
بعد صراع مع الموت دام لست ساعات متواصلة استطعت إنقاذ الطفل ،خرجت إلى غرفتي الخاصة منهكة ،بعد ساعة طرق الباب ،أذنت للطارق بالدخول ،ذهلت لمرآه ،كان وجهه متجهماً ،ما أن رأني حتى انفرجت أسارير وجهه ،باغتني بدهشة:
_وجد
_أهلاً بحضرتك يا سيد ماذا تريد؟؟
_أنا أدم يا وجد ألا تذكريني؟
_لا ،لا أذكر أنني أعرف أحد بهذا الاسم ،ماذا تريد سيد أدم؟
أردف بخيبة:
_أردت الاعتذار، ثم شكرك على إنقاذ طفلي
_هذا واجبي سيد أدم ،ومن واجبي أن أرثيك بوفاة زوجتك شغف
_لم تكن شغف ،هي فتاة أخرى تدعى يارا ،تزوجتها بناء على رغبة والدي لعمل جمعه مع أبيها
لم أصدم بما قال فهو كما عهدته الخيانة تسري في عروقه الجافة
_وما حال شغف؟؟
_هجرتها بعد زواج سري أثمر إجهاض طفل تعمدَته هي تسبب لها بالعقم ،{ثم باغتني بسذاجة:}هل تعودين لي؟ لازال حبكِ ينبض في قلبي ،لم أنساكِ لحظة ،تمنيت لكِ الشفاء دوماً
غرقت في نوبة ضحك موجعة ،ثم أردفت في وجهه بحدة:
_كما عهدتك ساذج أحمق جبان ،أرحل من هنا
طرق الباب من جديد فأذنت للطارق بالدخول ،باغتنا الطارق قائلاً بسعادة:
_لقد ظهرت النتيجة يا وجد ،وأخيراً في أحشائكِ ينبض قلب طفلنا الأول {جود}
ضحكت بسعادة بعد أن عانقني زوجي الدكتور لؤي الذي عالجني مسبقاً من مرضي المميت ،وعيناي تراقب عيني أدم التي تشي بالكثير من الندم المتأخر ،أردفت بمرح بينما هم بالرحيل:
_سأخبر أمي سيسعدها الخبر المنتظر
يسألني لؤي:
_ من هذا يا وجد؟
أجيبه دون أن التفت إليه:
_لا أحد
بقلم: منى شكري العبود_ سوريا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق