المقطع التاسع عشر
رواية ( الياقوتة السوداء )
* * *
في بداية الاستعداد لإجراء مراسيم عرس شمران ، ألقي مبكرا في المساء ، و على عجل بالبسط و السجاد إلى الربعة ، في حين شرع خلف بفرشها تشاركه عدة أيدي .
أقدام تروح ، وأقدام تجيء . و تقّلت القهوة بالمقلاة ( مطقطقة ) بطرب ، وقد ضوّعت الأنـــوف برائحتها الزكية . ووضعت فــي الهاون . وراحت يدٌ تنقر:
- (دن..دن ترن..دن..ترن..دن دن...ترن).
* * *
جرت قدما سعده ، مثل القطـاة . من طرف الدار ، إلى الطرف الآخر . ألف ألــف شغــل ينتظرها . وألف ألـــف شغل لم تبدأه ، من وراء التحضيرات لعرس شمران . و لو كانت واحدة غـــــــيرها لكفرت بالحائط ، وقــــالت :
- ( تف على الحايط ) (17) طلعوا الدود الأخضر من عيوني ، قابل مثل قصة ( أبو الـﮜبان ) (18) يزرفون مؤخرته بعود شوك ، و يروح أطفال القرية يفرونه ويرددون ، وهو يرفرف بجناحيه من الألم :
( شلون أُمك ترﮜص بالعيد . ... شلون أُمك ترﮜص بالعيد ) .
مثل هذي الحياة ..تف عليها . أي .. نعم لكن سعده . و بعد أن تمعنت في حالها، تبين لها : أنها ليست من ذلك الصنف . سعده أريحيّة . سعده ولو ...سوده...لكنها مثل مسبحة اليسُر ، حجر كريم . هي مو أبو الكبان ، مزروف (الِتنّاحه)19 ، لكن هي أبو الكبّان بطاعتها .ومن اجل عمها الشيخ حرب وأخوه شمران .. .هيّ ما تنحرج ويكون حالها مثل حال أبو الكبان. شلون تستطيع مثيلتها أن تكون وفية ؟ وكيف هي ما تستطيع ؟ كيف استطاع خلف أن يكون مثل ما هو الآن؟
ألقت آخر سجادة من حضنها ، و وضعت يديها على خاصرتيها وقالت :
ــ آ..............خ . ما ظل عندي ظهر...
(شلون أمك ترﮜص بالعيد ..شلون أمك ترﮜص بالعيد) .
و اگول :
ــ (أَهّا ..وَ هّا..وَ هّا ).
وراحت تفر بعجزها وتكركر:
ــ لكن يكفل العباس أُبو فاضل .. لأعطيها حقها . أنا أختك يَخلف ، مطلوب مني ارفع راسك ، ويْمِدْحن بنات الحوش : و الله خير ما اختاريت يا خلف ، مثل هذي الحمامة السمره . ما لها مثيل . عاش اختيارك خلف .
ويوم الثاني يكولون :
ــ هاذي ألسمرة جوهرة.
واقتنعت سعده : أن شمران عند قدوم زوجته سوف يجزل عليها العطاء ، و يهديها مقابل تعبها هدايا ثمينة . ألا تستحق ذلك ؟ نعم تستحقه . وحينذاك يقول :
- ( إطلبي سعده ).
وتقول :
ــ ( ترﮁية عبيد ، وثوب ابـﮜـع ).
ويضحك بكل حيله .. ضحكته تساوي الدنيا . ثم تأخذ الثوب ، وتثقبه من قفاها ، حتى تبيّن عجيزتها تلمع ( هههههه)، كما فعلا والدا خلف ، بعرس الشيخ حرب ،وترقص مثلما رقصا، وضربا عجيزة بعجيزة ، وآنذاك أضْحَكا عمها الشيخ حرب من كل قلبه ، وتفتقت بطون الحاضرين . لكن سعده .. عندما أدركت : إنها يتعذر عليها أن تنجز ذلك ، أبعدت الموضوع برمته لكي تنصرف إلى طرادها في فناء الدار ، دون أن يتاح لها إن تهرش جلدة رأسها . وكان عليها أن تجفف إبطيها من عَـرَقٍ ينضح ، وتحسه يقطر باتجاه عارضتي أضلاعـــها الى خاصرتيها . فهناك أكثر من نداء من وسط البيت ، كان عليها أن تنجز ما يطلب منها بسرعة ، وهي تجري من مكان إلى آخر، دون كلل . واستدارت باتجاه صوت آمر من عمتها :
ـ اسرعي .
أسرعت مستعينة بتأرجح ردفيها إنها تحس باهتزازهما و قمتي مؤخرتها اللتان امتلأتا بعد زواجها كيف يقفزان للأعلى بشكل واضح و هي تهرول . و رددت صدرها لجملة احتفظت بها من تلاميذ المدينة :
ــ يس.. يم . يس.. يم .. يس ..يم .
* * *
بقية الأيام - عدا أيام التهيؤ لزواج شمران - تقضي سعده معظم وقتها في خدمة عمتها ( صفيّة) الحضرية ، أيام مكوثها في القرية. وهي التي تأخذ الأواني التي تخصها و تجليها على جرف النهر . مما يذكرها بنسوة المدينة وأبيها . ثم تحوي بالطست ما يتسخ من ملابس و فراش .التي تحتاج إلى تنظيفها على جرف النهر و تشرع بفركها بصابون ال ( سلّيت ) .ثم تجلب ماء الشرب من النهر لملئ الحِبْ وتفرغ ما يترشح في الناقوط (19) .
ما أن تنجز ذلك ، حتى تبدأ بكنس الغرف و المرافق التابعة لها، وترتيب المحتويات حسب توجيه عمتها الحضرية . و ما أن تنهي سعده كل شيء ، حتى تفكر الحضرية : بأي عمل تكلفها ؟ فتعطيها إناء مما تبقى من فضلات الأكل أو غيره لترسله بيدها لإحدى معارفها من الفلاحات اللاتي تعودن أن يخدمنها .
و بما أن سعده هي ابنة مدينة ، و تداخلت حياتها في أوقات ليست بالقصيرة ، في بيوت الأغنياء ، و بين نسوتهم ، اللواتي يرين الحياة على نحو أكثر بساطة . وأكثر انسجام ، وأكثر مجاملة و تواضع . لذلك رأت إن هذه الإلفة مع الحضرية هي أقرب إلى قلبها من الأخريات .
مع ان سعده ، في بداية الأمر، لا تجد كل ما ألفته من كامل سجايا بنات المدن لدى هذه المرأة ، فهي ذات طبيعة تتسم بقلة الكلام . لكنها أكثرهن اهتماماً بمعرفة تفاصيل ما يجري في البيت الكبير و القرية . إنها تود أن تعرف تفاصيل الحياة الجارية هنا ، دون أن تختلط بشريكاتهن من زوجها .
إن صفية و حتى هذا اليوم لم تلمّ بتفاصيل مقتل بدرية و انتحار أخيها . كانت قد شاهدت بدر مع شمران ، ذلك الفتى الهادئ الوسيم ، الذي كان من الخجل ما تشبهه هي بالفتاة الخجولة . عجبت كيف أقدم على قتل اخته و انتحر ؟ كان الأمر ، قد أصابها بالهلع ، و قررت أن تترك القرية و تعود للمدينة .
مع من تتداول الحضرية بما حدث آنذاك ؟ كانت ترسل على سعده و تقص لها تفاصيل ذلك الحدث المروع . لم يهدأ لها بال جراء ذلك الرعب الذي انتابها .
كانت الحضرية صفية عندما تريد أن تتحدث بأمر جسيم مثل هذا تستدعي سعده ، و تظل تتكلم و هي تبكي . لا تنسى أبداً ذلك الشاب الجميل الوديع . كيف أنجز مهمتين صعبتين ؟ قتل أخته .. و قتل نفسه .
بعض الأمور التي تخبرها عنها سعده ، تبدو و كأنها تسمعها لأول مرة . لذلك تحاول أن تجالسها وقت غياب الشيخ و تنبش كل شيء تعوزها الدراية عنه .
إنها لا تختلط قطعاً بربات البيت الكبير ، إلاّ إذا كان هناك ما يلزمها ، دون أن يترك لها عذراً . ولكي لا تظلمها سعده فليس كل بنات المدينة سواء ، ( فأصابع اليد ليست سواء ) .
يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق