الاثنين، 28 يونيو 2021
الكاتب محمد قزيز يكتب ....لوحة على الجدار
*لوحة على الجدار*
استَيقَظَ على دويّ الانفجاراتِ ، هلع إلى النافذةِ ليرى ما يدورُ في الخارج ، رأى سُحبُ الدخانِ تأكلُ ضوءَ الشمسِ ، والظلامُ يكادُ يهزمُ عتمةَ ليلةٍ لا توجدُ بها نجومٌ ، عينهُ عكستْ شحوبَ ما يحصلُ في الخارج ، والصّمتُ يسري تارةً ويستأنفُ تارةً أخرى ، يجولُ هدوءٌ بينَ انفجارٍ وآخرَ ، لا يدري متى يكونُ وجهةَ انفجارٍ.
حديثه مع الموتِ دامَ وطالَ ، بينَ صرخاتٍ تسودُ بفضاءٍ لا انقطاعَ لمددٍ، وبينَ دويٍّ يسرحُ في الأرجاءِ. يتمزقُ معَ كلِّ صرخةَ أملٍ عاشَ عليه ، كأنَّه يشاهدُ مسرحيةً من شرفةِ منزلهِ ، جعلت أصواتَ العرضِ واقعاً.
تنتفضَ الروحُ باكيةً معَ كلِّ مشهدٍ.
سئمَ من هذا الهراءِ ، اعتقدَ أنه إنْ أغلقَ النافذةَ سوف ينتهيْ كلُّ شيءٍ.
فعلَ ما أرادَه بحركةٍ رشيقةٍ من يدهِ ، وخطا خطواتٍ عائداً إلى سريره ، الذي انتفضَ منه مذعوراً منذُ برهةٍ ، مضى يمشيْ لكنه ضيعَ طريقَ العودةِ، تاهَ بينَ الخيالِ والواقعِ، حارَ بينَ الأحلامِ واليقظةِ ، هامَ بينَ الحياةِ والموتَ، يخطو وهوَ مكبلٌ ، يجري دونَ أنْ يتحركَ؛
ليرىَ أنَّ كلَّ شيءٍ يتطايرُ من حولهِ ، شظايا الزجاجِ تتسابقُ إلى كلِّ زاويةٍ في الغرفةِ ، اللوحاتُ تحلقُ في مشهدٍ انعدمتْ فيه الجاذبيةُ ، والدخانُ أغرقَ عينيه ببحرِ الظلامِ ، لكنْ هذا كلّهُ حصلَ دونَ أنْ يصدرُ أيِّ صوتٍ ، كان صامتاً تماماً ، لا يدريْ كيفَ أصبحَ على حافةِ فراشهِ مرمياً كقطعةِ قماشٍ باليةٍ ، لا يعي ما يجري ، كلُّ شيءٍ يهزمهُ ، لم يكنْ يعتقدُ أنهُ ممثلٌ في هذهِ المسرحيةِ ، وعليهِ أن يمثلَ دورهُ دون سيناريو ، حتى أنهُ لا يتحسسُ جسدَهُ من فيضٍ الواقعةِ ، لم يعلمْ لمنْ هذهِ الدماءُ التي تلطخُ الجدارَ ، لكنَّهُ على يقينٍ أنَّ الغرفةَ لا يوجدُ بها أحدٌ غيرُهُ.
جاهدَ في استيعابِ ما حدثَ ، عاركَ أنفاسَهُ ، ورويداً رويداً خفتَ ما حصلَ
حاولَ النهوضَ من جديدٍ ، وبدأ يسرحُ في عالمِ القيودِ ، وتوارى عن أنظارهِ النورُ ، ليصبحَ كلُّ شيءٍ مظلماً ،ليهدأ على أثرِ ذلك كلُّ مَنْ حولَهُ ويصمتُ ، ليسمعَ صوتاً يقولُ
-إنّه يتنفسَ .
ليشتعل حريقاً تهيمن عليها نزعةُ الحياةِ ، وصبَّ في أُذنهِ جمراً ليلتهمَ ما بقي لديه من صبرٍ ، وفي الوقتِ ذاتِه ، عندما سمع هاتين الكلمتين ، ارتطمتا في طبلةِ أذنهِ وأقامتا حفلاً ، إنه يسمعُهما مراراً وتكراراً ، يدورُ صدى حروفِهما في الفضاءِ ، هاتان الكلمتانِ جعلتا منهُ بطلاً في مسرحيتهِ ، التي بقي في دورانِ أحداثِها ورغمَ عسفِها ، فإنَّ الحياةَ اعتادتْ أن تمرّرَ عجلتها على أحلامهِ ، وعينُه تقودُه للبحثِ عن بصيصِ أملٍ.
يجولُ باحثاً فقط عن الحياةِ ، عندما سمعَ الكلمتين عادتْ به الذاكرةُ إلى الوراءِ، إلى البحرِ إلى ما وراءِ المحيطِ ، على مقربةٍ من الشمسِ ، ذكَّرتُه هذهِ الجملةُ بحادثةِ طفولتِهِ ، عندما كانَ في رحلةٍ إلى شاطئِ البحرِ ، حينَ كانَ لا يجيدُ السباحةَ ، ليغدرَ به البحرُ ويغرقهُ في طيّاتِ أمواجهِ ، فقط لأنهُ لا يستطيعُ أنْ يتغلبَ عليها ، لأنَّه ضعيفٌ لا يقوى على معاركتِها وحيداً ، حينئذٍ استيقظَ على الجملة ذاتِها ، في مشهدٍ مختلفٍ تماماً ، الفرقُ أنَّهُ الآن لا يدري أينَ أودت به الخيبةُ ، لا يدري إن كان يفقدُ عضواً من جسدهِ ، لا يعلم قدر الأسى ، الذي تشكل منهُ زجاجٌ مكسورٌ ، وبدأ يجري في شرايينهِ.
فقط يسمعُ لكن لا يرى ، قضى بهِ الأمرُ في متاهةِ الواقعِ حيثُ الوجودُ مثبتً ، وفي الوقتِ ذاتهِ معدومٌ ، يريدُ أنْ يخرجَ من هذا الكابوسِ بأقلِّ الخسائرِ ، لترمي بهِ الحربُ ببحرِ الظلامُ ، ليغرقَ بأمواجِ تعاسِتها ، هوَ لا يجيدُ السباحةَ الآنَ في هذا الظرفِ المميتِ.
شيءٌ واحدٌ يراودُه ، شعورٌ صامتٌ يختبئُ في ثنايا الصخبِ ، وصرخاتٌ ودخانٌ وانفجارتٌ كان يسمعُها ويراها ، ترسوْ بهِ مخيلتُهُ إلى أخر شيءٍ رآهُ ، هيَ صورةُ الدماءِ الذي رسم لوحةً على الجدارِ ، لوحةً ليس لها مثيلٌ في عفويتِها ،
وفي وسطِ هذا الازدحامِ ، عادت الأصواتُ تطرقُ سمعَهُ من جديدٍ ، استجمعَ كلَّ قواهُ ليفتحَ عينه ، ليرى أينَ رماهُ عدمُ المبالاةِ ، يحاولُ كبحَ ضبابياتِ خيالهِ ، ليستوقفهُ عن المحاولةِ صوتٌ يقولُ بنبرةٍ يطفو عليها الحزنُ .
-أعلمْ أنكَ تحاول ، لكن لا جدوى، ليس بمقدورِك أن ترى الواقعَ بعدَ الآن .
هذهِ الكلماتُ وقَعتْ على مسمعهِ كعاصفةِ رعدٍ ، لكنَّ عينَه ليست موجودةً لتمطرَ ، حاولَ أن يحرّكَ يدَهُ ، وأعادَ المحاولةَ مراتٍ عدةً ، أيعقلُ أن يكونَ الأمرُ بهذهِ البساطةِ ، فالغموضُ أصبحَ متعباً وسطَ هذا الوضوحِ .
هوَ الشاب الذي طمح أنْ يقومَ بعرضِ لواحاتِه في أحدِ المعارضِ الدوليةِ ، وقد تمَّ ذلك لكنْ بعدَ أن فواتِ الأوانِ ، ليبقى أجملَ ما رسَمه هي التي بقيت على جدارِ غرفتهِ..
الكاتب محمد قزيز/ سوريا
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
المبدع دائماً _محمد_
ردحذفالمبدع دائماً _محمد_
ردحذف