ظلمٌ على مقصلة الموت
منى شكري العبود_ سوريا.
جالسٌ عند ناصيته، أراقب سيلان الدم الخاثر على امتعاض ملامحه، وانصت لنفحات شهيق روحه المتألمة، ذرفت المزيد من دموع الألم بعجزٍ قاتل، وأسرفت بمشاعر الحزن والأسى حتى غدوت صريع نوبة قلبية، اجتزت الكثير من المحطات بصلابة رجل مغوار، وعقدت الصفقة الأخيرة مع الموت لأعود للحياة بعجزٍ في القلب قد يودي بحياتي أن أسأت إليه أو أن سمحت لأحدهم بالإساءة، كتب في البند الأخير (قد ولى زمن الفرص المتتالية)، فتحت عيني أتلقف أول ما أرى بعناق حار مبللاً بدموع الشوق، لكنني لا أرى سوى خيالات شفافة ناصعة تترنح أمامي، هل يعقل أن الحياة قد استهزئت بي؟ نظرت حولي بشغف ضالٍ يطمع برحمة ربه التي لا يستحقها، أتمعن في أيّ الدرجات غدوت، بعد حسنات قاحلة، وأعمال مسخطة، وذنوب فائضة، أفزع... أغرق في صمت مطبق يصحبه ليل دجوجي من جديد، يلفظني الموت مرة أخرى لتلتهمني الحياة بنهم، ينتشلني من دوامة فزعي صوت أحدهم الذي يهمس لي (أمجد...أمجد هل تسمعني؟؟)) أهز له بطرف سبابتي بجهدٍ بالغ، يصرخ بسعادة تطغى على كل شيء، وكأنه يترقب اللحظة، أنه أخي زيّد المحب الوحيد ليّ:
_لقد عاد أمجد... لقد عاد يا شغف.
أسأل نفسي :وهل رحلت لأعود من جديد!، شريط باهت يعرض أمام عيني بسرعة فائقة، أسأل بحرقة:
_هل مات مهاب؟؟
تقترب مني بتؤدة متوشحه باللون الأسود، ترمقني بنظرات شتى لم أتبين لها معنى صريح، تقترب مني أكثر، ثم تهمس في أذني بغل:
_لقد سلبوك كل شيء يا أمجد، رغم ذلك لقد سلبوا منك أقل ما سلبت منهم، تستحق لكنني ومهاب لم نستحق الأذى يوماً، أنت السبب، (أردفت بحنقٍ شديد:) لقد قتلتنا ألف مرة يا أمجد، أنظر لنفسك نصف حيٍّ عاجز لا حول لك ولا قوة، (صمتت قليلاً ثم أضافت بلطفٍ مصطنع تصحبه بسمة سخرية:) لعلك تقصد باب التوبة بيقين كي يفتح لك.
ألقي في وجهها سؤالي وأذناي منتظرة أن تتلقف الإجابة بنهم:
_وهل تغفري لي؟؟.
همست في أذني بحنق شديد تتعثر حروفها بسيل دموعها فتخرج متقطعتاً:
_لم ولن أغفر لكَ يوماً، سلبتني نقاء روحي وإنسانيتي، أدميتني ألف مرة، وأهنتني ألفاً، كنت أتألم برضا، وكنت لكَ دوماً نعمَ المرأة الصالحة، {صمتت قليلاً تشهق أنفاسها، ثم أردفت حانقة بغضبٍ هادر:) لكنك كنت رجلاً خائناً جباراً، أحكمت علي قضبانك كي لا أفر من ظلمك وقهرك يوماً، (صمتت برهة ،ثم أردفت بحنان أعلمه لطالما تذوقت طعمه مراراً وتكراراً رغم جبروتي ،لطالما كان وجبة روحي المفضلة:) لكنك لم تكن تعلم أنني لم أنوي الرحيل، إنما كنت انتظر لحظة عودتك لي تائباً، لم ارجوا لكَ الموت أبداً وأنت على حالك، خشيت عليك من نار الجحيم، رغم ما فعلته بي، (أردفت بنشيج بكائها بغضبٍ هادِر )،لكنني لم يخطر لي يوماً أنني ومهاب سنقطف زرعك بأشواكه ونأكله بسمه.
_الآن قد عدت تائباً و....
قاطعتني بحدة:
_اصمت، قد عدت متأخراً، الآن قد يئست ولا أرجوا لك ألا مما أشعرتني به ألماً مضاعفاً، فلتغرق في جحيمك، تباً لكَ يا أمجد.
همت بالرحيل، كل ما فيني بدأ بالصراخ والبكاء وعينيّ تحلق بأسى خلفها ترجوا غفراناً لا تستحقه، طالعتني بازدراء طعنني في قلبي ثم همت بالرحيل، نظرت إلى عجزي الذي لم يستحق الآخر حتى شفقتها، صرخت أرجوها:
_أرجوكِ فليبقى كفكِ بكفي لأنفض عن عاتقي أكوام الذنوب، لم أقصد إيذاء مهاب يوماً صدقيني.
تجرد لساني من الكلمات، أصبحت عارياً من التبرير عما فعلته، استقطبت أعذاري بطلب الغفران مرة أخرى، صرخت في وجهي بصوت كاد يقتلع حنجرتها:
_لقد مات مهاب، قد قتلوه بأبشع الطرق، لقد مات شر ميتة انتقاماً منك، فلتهنئ بذكرياتك العفنة أيها السفاح، ها قد لاقيت ما وعد ربنا الظالمين أمثالك حقاً.
ورحلت، بعد أن تركتني خلفها أنازع الموت، هرولت ذاكرتي إلى ذاك الزواج بعد قصة حب دامت ثلاث سنوات، ذاك الزواج الذي أثمر لي بعد عشر سنين عجاف ولداً معاق قلبياً، سلب مني روحي لتردم ذاك النقص الذي يعتريه، لازمته بقلبي وعينيّ ثمانية أعوام حتى شفي تماماً، أينع على يدي هاتين باسماً ضاحكاً.
حلقت في سماءنا غيوم حربٍ سوداء، غردت الغربان، ونعقت العصافير، تبشر بانقلاب الليل لنهار والنهار لليل، غدوت واحداً ممن يقبض الأرواح، تمردت متناسياً نهاية النمرود، وتجبرت متجاهلاً غرق فرعون بجبروته، متجاهلاً العدل والقصاص الرباني، بطشت بمشاعر زوجتي حبيبتي أولاً، تمرنت أمام دموعها وتوسلاتها بتركها وشأنها على الصمود أمام قهر المظلومين، أعدت المحاولات مراراً وتكراراً إلى أن غدوت بقلبٍ حديدي لا يعرف الرحمة، خرجت لساحة الحرب كوحشٍ كاسر، أزئر بصوت ((الغلبة للأقوى))، أنهش بأنيابي التي برزت كل ما يعترض طريقي، وئدت الضعفاء، سلبتهم أطفالهم ونساءهم، كرامتهم وشرفهم أمام أعينهم، وتركت بعضهم معاقين مبتورين الحياة منتظرين الموت.
في ليلٍ عاتٍ انقلبت الموازين وحان وقت القصاص، صرخت أرجو رحمة لا استحقها لكن ولدي يستحقها ((لم يحن وقت القطاف بعد لازال في أوائل نضوجه))، سلبه الموت مني عنوة، بعد أن سلبوا جمال وجهه بحربة أسلحتهم، وصفاء صوته بصراخ الألم والاستغاثة بي، ونقاء جسده بدماء ضجرتها جروحٌ بالغة أهلكته، بتروا قدميّ اليسرى ويدي اليمنى وتركوني حياً بعد أن أجلسوني عند مقدمة رأس ولدي أراقب لحظاته الأخيرة، وأطرب بشجن ألمه، أخذني الموت في رحلة للنهاية، ثم أعادني بإعاقة قلبية يمنحني بها الفرصة الأخيرة للتوبة. ينتشلني زيّد من دوامة الذكريات، ربت على يدي بحنان ثم همس لي:
_لا تقلق باب التوبة لم يغلق في وجه أحد يوماً.
_وهل لدي وقت لقرعه، أظن أنني لن أستطع اللحاق به يا زيّد، عجوزٌ يقرع ذاكرتي صوت دعائها باستمرار بعد أن قطفت روح ولدها أمام عينيها (أرجوا لكَ من الله انتقاماً لا سلام بعده، أرجوا لكَ من الله جحيماً يغلي بك إلى أن لا يبقى منك الأثر، ثم تخلق من جديد لتذوب بجحيمه من جديد) يتبعها صوت طفلة أجهشت من البكاء والخوف بعد أن قتلت والديها وعيناها المختبئة مني تترقب ما يحصل، تبعت حينها صوت بكائها، لتنفجر في وجهي باكية تردد:(أذاقك الله ناراً كالتي في جوفي لا راحة لكَ بعدها) أتعلم ماذا فعلت يا زيّد حيّنها؟، قد ذبحتها بخنجري!، قطعت أوتار صوتها كي تكف عن الدعاء، وهناك صوت رجل يرجوني بعد أن قبل قدمي ألف مرة ألا أسفح عرضه ولا أذبح أطفاله، أتعلم ماذا فعلت يا زيّد، قد قيدته وقيدت زوجته، ثم ذبحت أطفاله أمام أعينهم، وبعدها سفحت عرضه وهو يبكي بحرقة ويتوسل إلي، ثم قتلت زوجته بتأني، وتركته خلفي مبتور اليدين يبكي حرقة مصابه، وصوته يجلجل في الفضاء(أرجو من العدالة الربانية أن تذيقك مما فعلت أضعافاً مضاعفة، أهلكك الله أيها المتجبر) وهناك المزيد والمزيد من الأصوات تقيم ضجة صاخبة ترجوا انتقاماً يليق بظالم مثلي.
صرخ زيد باكياً:
_كفاك كذباً يا أمجد، لن أصدق انك فعلتها.
أجهشت بالبكاء ألفظ دموع الندم، نكست رأسي خجلاً، أردف لساني يتلو باختصار نبذة عن ما فعلته:
_قد فعلتها يا زيّد، لقد جردتهم من أعراضهم، ذبحت أطفالهم، سرقت أموالهم، تاجرت بأعضائهم، لقد فعلت أكثر مما سمعت عني يا زيد.
قال زيد يرجوني أن أنكر حقيقة ما يسمعه مني عني:
_أرجوك قل أنك لم تفعلها يا أمجد؟.
أكملت بحرقة مؤكداً:
_هرولت خلف متاع الدنيا ألهث كالكلاب الضالة، إلى أن صفعتني ساعة القصاص، لم يرديني صريع هذ الفراش عجزي، بل ما فعلوه بولدي، لقد قتلوا مهاب أمام عيني يا زيّد، لقد جردوه من الحياة على مهل، لقد استمتعوا بتعذيبه.
سأل زيّد بحرقة:
_من كانوا يا أمجد؟؟
أجبته بصوت يمزقه الألم:
_أشقاء ضلالي، رفقاء الجحيم.
سألني زيّد بنبرة تشوبها المرارة، بعد أن طالعني بازدراء:
_لماذا؟ طالما كنت رفيقهم، طالما أنك شاركتهم طقوس التعذيب والتفنن بأساليب موت عصيبة؟
أكملت اعترافاتي في حرج شديد، بعد أن جلدت نبضي بسياط الهرولة، خشية أن يتوقف قبل أن أفرغ ما بجعبتي:
_ قد اعتدت الخيانة والغدر، ففعلت بهم كما فعلت بغيرهم، سلبت شرف أخت أحدهم تحت مسمى الحب، ثم قتلت زوجته وأطفاله بعد أن كشفوا أمري، وهربت، أتصل بي يشكو حاله، هرولت إليه معزياً، نصبت فخاخ الخبث، وجهت أصابع الاتهام إلى أحدهم، فقتل عائلته ثم قتله، وقد شاركته بذلك!، ظن نفسه أنه أخذ بثأره، طفق برفع قارورة الكحول، شرب بشراهة، طرق كوبه بكوبي احتفالاً بنصره، خشيت أن يكشف أمري مرة أخرى، شاركني الشيطان بنصب الكمائن إلى أن أوقعته، ظننت أنني قتلته، لأفاجئ به مقدماً وخلفه مجموعته يحمل بين يديه كفن طفلي.
بكى زيّد بحرقة، صم أذنيه، ثم أردف بحنق شديد:
_كفى، لم أتوقع أنك بهذه الوحشية يوماً ،قالوا الكثير عنك، لكنني لم أصدق أحدهم، لطالما كانت صورتك الإنسانية القابعة في جوفي تتحداهم، قولك هذا قد أرداني أمامهم صريعاً مهزوماً يا أمجد، (صمت برهة، ثم أضاف بصوت رقيق تطغى عليه بحة الخيبة:) قد خيبت أملي يا أمجد.
وخزٌ قاتل في الضمير يصحبه ضيق تنفس رهيب يجتاحني، أشعر بأن الأوكسجين قد أصيب بداء الشح، عرق بارد غزير يتساقط من جبهتي ويحتل سائر جسدي الذي غزته قشعريرة أرعدت أطرافي، غثيان أرجوه أن يلفظ كل ما في جوفي من ذنوب ومشاعر وبؤس، أشعر بأن قلبي أصيب بنوبة هلع جعلته عاجزاً عن تنظيم نبضه، ألم قاتل يجتاح ظهري ثم رقبتي وصولاً إلى ذراعي الأيسر، حالتي تزداد سوءاً، أشعر بأن الأوكسجين قد تفاقمت حالته وأصيب بداء البخل، دوار شديد جعلني أحلق، شهقت أنفاس عدة لأسترق الحياة من جديد، لكن محاولاتي بائت بالفشل، صوت صفير عالي يخترق طبلة أذني وصولاً إلى قاع جمجمتي، أسمع صوت زيّد يصرخ:
_أيها الطبيب أنه يموووت أسررررع.
نعم أصبت أنني أموت، عاركت لنطق الشهادتين لكنني لم أفلح بفعلها، وغدوت في ثباتٍ عميق.